حين نتحدث عن التاريخ الإسلامي وبطولاته وتضحياته لا نعني ولا نحدد ذلك بنسب أو جنس أو بيئة أو أي عامل طرأ عليه, إنما فقط نعني ما صنعه هذا الدين الذي أنزله الله تعالى, مِنة منه ونعمة.
كما لا نعني أفرادًا قاموا بذلك فعلوه بأشخاصهم, وإنما كان ذلك بالإسلام وحده, أقبلوا عليه وأخلصوا له وضحوا لأجله, ولولاه لم يكونوا شيئًا {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10][1]..
به تميزوا وتَحَضروا وسادوا وقادوا, وإلا فما الذي كان لديهم يعطونه ويقدمونه للآخرين, وهو ما عبر عنه ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس في القادسية, وقارن بين حالهم قبل الإسلام وبعده وفي كل الميادين الإنسانية والحضارية والاجتماعية.
فتغير المجتمع كله وارتقى وأقام الحياة الكريمة الفاضلة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103][2].
ويحدثنا التاريخ عن ذلك المجتمع الذي تحرر من أثقاله وأدرانه وقام بانيًا فارعًا, ارتقى قمم الحياة الإنسانية الفاضلة التي ما كانت تخطر على بال أو تَمُرُّ على ذاكرة, لكنها كانت بالإسلام واقعًا متحركًا مأمونًا على الدوام.
وقامت في مجتمعه المعاني الإنسانية الغائبة وعاشت تموج بها الحياة في نوع من البشر جديد, إنسانيةً واستقامة وأمانة, كما هي علمًا وإنتاجًا وشجاعة..
عَرفت بهم الحياةُ لأول مرة الإنسانيةَ والعدالة الحقة والمحبة, وتغير بذلك الإنسان والحياة وفرحت بهم وانتشت البيئة والمكان, بل والحيوان, ورأت من ورائهم الحياة الإنسانية الفاضلة والحضارة الكريمة والفروسية الخَلوق.
ولادتها الجديدة السليمة السالمة الأبية الطهور, فأحدثت في الحياة عجبًا لا يُصَدَّق لولا أنها مرئية متكررة متوهجة, فغدت الأرض غير الأرض عندما أشرقت بنورها وازّينت وأنبتت من كل زوج بهيج, فاستدار الزمان وعاد كما أراده الله يوم خلق السموات والأرض.
والحديث عن رقي المجتمع المسلم يتجاوز المباني العمرانية والإنجازات المادية, بل حتى أحيانًا النِّتاجات العلمية إلى رقي ذلك المجتمع في نوعيته وسلوكه وأخلاقياته, فما كان يمكن أن تُبنى تلك الصروح العالية والعجائب لولاه.
وتأتي معانيه واضحة في سلوكه, فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل, وبذلك ارتقوا من السفوح الهابطة إلى القمم السامقة, فكانوا مثالًا فريدًا, تشهد ذلك من خلال سلوكه وفعاله وتعاملاته.
هل يمكن أن نجد في التاريخ أمةً, أطفالها ونساؤها وشيوخها فضلًا عن رجالها, يهرعون باحثين عن طرق -مهما كانت شاقة- يخدمون بها هذا الدين تقربًا إلى الله تعالى وعلى منهجه, حتى لو كان في ذلك تقديم نفوسهم رخيصة له؟
والكلام عن المجتمع المسلم الذي رباه الإسلام باعتباره هو الذي يسوس أمورهم ويوجِّه حياتهم ويأخذ المسلم نفسه بمنهجه إيمانًا واحتسابًا, يفعله مقبلًا غير مدبر.
مهما كانت التضحيات إلى مستوى اعتبر من العجائب الفريدة, وقدم نجائب الأحداث وعجائبها وكرائمها وبشائرها الندية التي أضاءت الحياة وارتقت بها إلى الفضائل.
والتاريخ الإسلامي مليء بهذه الصور التي زينته, تجدها مطمورة تحت أنقاض الشبهات والزيوف والتحريف, التي لم تدع جانبًا منه إلا هوت بفضائله وأضاعت مذاقه وأذابت قوة بيانه ومدلولاته وجمالاته, فكم من صورة باهرة -عُرضت بشكل باهت أو جائر حائر- جعلته مثيرًا للرثاء.
إن لم يكن للازدراء, وهو في حقيقته يحمل الضياء الذي لو عرفه أهله بل حتى غير أهله, لأُعجبوا به وانجذبوا إليه, وهذا الغبش والعبث قد أحاط بالتاريخ الإسلامي في عمومه أفرادًا وجماعات ومجتمعًا, وهم الذين قدموا غالي التضحيات لبناء ذلك المجتمع الكريم, نساءً ورجالًا, شبابًا وأطفالًا. فهذه عفراء وموقفها -مع أولادها الثلاثة- في غزوة بدر[3] (17 رمضان, 2هـ).
وهذه أم سعد بن معاذ سيد الأوس حين تأخر ابنها قليلًا عن الالتحاق بغزوة الخندق، خرجت تحثه قائلةً له: لقد تأخرت يا سعد. ولما انتهى من استعداده خرج يهرول وهو يرتجز[4]:
لَبِّثْ قليلًا يَشْهَد الهيجا حَمَلْ
لا بأس بالموت إذا حان الأجلْ
وانظر إلى سَواد بن غَزِيّة وما فعله في بدر وهو متقدم في الصف، فأشار إليه رسول الله: "استوِ يا سواد". فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني. فكشف رسول الله عن بطنه الشريفة وقال: "اسْتَقِدْ".
فما كان من سَواد إلا أن اعتنقه فقبّل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله، حضر ما ترى فأردتُ أن يكون آخر العهد أن يمسّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله بخير[5].
ومن الأسف أن هذه الصيغ الفريدة تم تجاوزها من قبل الأعداء وإهمالها, بل جرحوها وفتكوا بها وقلبوا صورتها, وكلما كانت صفحاتها أكثر بياضًا زادت عليها السهام وكثرت جروحها واتسعت الهوة بينها وبين حقيقتها الرائعة. من أمثال يوم السقيفة وحروب الردة والفتوحات, ويقدم التاريخ الإسلامي بغير حقائقه مما يجعله مبتورًا عن طبيعته بعيدًا عن أصالته غريبًا عن منبته.
أما عجائب هذا التاريخ في صناعة الحياة الإنسانية فهي بعيدة عن التناول في أغلب الأوقات, وهو في حقيقته مليء بالعجائب والنجائب حين يُعرض محققًا مدققًا متحريًا.
فالإسلام الذي ربّى أتباعه على معانيه ومنهجه الرباني أنتج مجتمعًا -أفرادًا وجماعات نساءً ورجالًا وأطفالًا- ملأ الحياة الإنسانية في ذاته وفيما حوله, صيغًا نشرت شذاها في الآفاق وتمنى العيش فيها حتى غير المسلمين, بل إن ذلك كان المفتاح لقلوبهم كي يُقبلوا على هذا الدين فدخلوه أفواجًا.
كيف لإنسان مثخن بالجراح يبقى مستمرًّا في القتال كأنه لا يحس بالألم, فهذا أنس بن النضر يطلب الموت في سبيل الله وهو عم أنس بن مالك خادم النبي وبه سُمِّي, قاتل حتى قُتل، فوجدوا به فوق 70 ضربة, فيقول أنس ابن أخيه عنه: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ في معركة أحد فوق 70 ضربة، فما عَرَفَتْه إلا أختُه من بَنانه[6].
وهذه من العجائب والنجائب وقصص الكرائم وأحاديث المحامد التي صنعها المسلمون بهذا الدين وحده, وهكذا كان المسلمون جميعًا.. فلو قرأت عن أي من الصحابة الكرام والتابعين ومن بعدهم أمثالهم من تلك الأجيال ممن أقبلوا على دين الله بحبٍّ عميق وتوجهوا بإخلاص عديم النظير في القيام بواجبهم لرأيت العجب.
وحين تنظر في حياة أحدهم ترى هذه النوادر مسطورة مشعة تنير الحياة وتعطرها بعبق الحضارة الإنسانية ونضارتها البارة, فاستحقوا بذلك كل وصف فاضل كريم[7].
بيض الوجوه كريمة أحسابهم *** شم الأنوف من الطراز الأول
وكذلك ما كان من آخرين مثل سعد بن الربيع في معركة أحد وغيرهم كثير وكثير, انطلاقًا من النبع ذاته والقيام بتلك المعاني التي قدمت تلك الصيغ بمنهج الله تعالى, إيمانًا واحتسابًا, وهذه الصيغ وأمثالُها مليئة بها صفحات التاريخ الإسلامي في كل العصور, كلما كان الالتزام بهذا الدين. وكان العلماء في ذلك قدوة.
وبالإسلام وحدَه يمكن صناعة الحياة الفاضلة, ترى ذلك من خلال صفحات تاريخه المدون الموثق, في صور تربيته لأهله على العظائم الخيِّرة والكرائم النيِّرة والمحامد الفاضلة, فيه وحده يصنع الإنسان ما لا يمكن صناعته من قِبَل أي أحد أو يبلغه أو يرتقيه مهما حاول أو أراد وهو لا يعرفه إلا بهذا الدين الذي يأتي بالعجائب والنجائب في كل اتجاه وفي كل ميدان وفي أي أثر.
وفي الختام نتعرف على قصة عُمَيْر بن الحُمام الأنصاري شهيد معركة بدر, وكان يستعد للمعركة وبيده تمرات يأكلها مستعينًا بها يتقوى على القتال, فما إن سمع رسول الله يقول: "والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا, مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة".
فرمى بقية تمراته وهو يقول: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه, إنها لحياة طويلة. فأخذ سيفه فقاتل حتى قُتِل, فكان أول شهيد أو من أوائلهم, وكان ينشد[8]:
ركضًا إلى اللـه بغير زادِ
إلا التقى وعمل المـعادِ
والصبر في الله على الجهاد
وكل زادٍ عرضة النفـادِ
غير التقى والبـر والرشادِ
[1] انظر تفسيرها: في ظلال القرآن 4/2369.
[2] انظر تفسيرها: في ظلال القرآن 1/443.
[3] سيرة ابن هشام 1/702. واستشهد منهم اثنان (عوف ومُعَوَّذ)، سيرة ابن هشام 1/708. (والعفراء: الأرض البيضاء لم توطأ، وكذلك: الليلة الثالثة عشرة من كل شهر). ونسبها في سيرة ابن هشام 1/429، 702، 708.
[4] انظر: السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها ص221.
[5] سيرة ابن هشام 1/626.
[6] سيرة ابن هشام 2/83، 124، 125.
[7] من قصيدة لحسان بن ثابت، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[8] نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، وبعدها.
الكاتب: د. عبد الرحمن الحجي
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي